الثلاثاء، 13 مارس 2012

قال تعالى { كتب على نفسه الرحمة }

بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على نبيه الكريم
قال تعالى { كتب على نفسه الرحمة }
فهو سبحانه المالك لا ينازعه منازع ولكنه فضلا منه ومنة – كتب على نفسه الرحمة – كتبها بإرادته ومشيئته لا يوجبها عليه موجب ، ولا يقترحها عليه مقترح ، ولا يقتضيها منه مقتض إلا إرادته الطليقة وإلا ربوبيته الكريمة – وهي الرحمة قاعدة قضائه في خلقه ، وقاعدة معاملته لهم في الدنيا والآخرة....
والاعتقاد إذن بهذه القاعدة يدخل في مقومات التصور الإسلامي فرحمة الله بعباده هي الأصل حتى في ابتلائه لهم أحياناً بالضراء فهو يبتليهم ليعد طائفة منهم بهذا الابتلاء لحمل أمانته بعد الخلوص والتجرد والمعرفة والوعي والاستعداد والتهيؤ عن طريق هذا الابتلاء ، وليميز الخبيث من الطيب في الصف وليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ، {وليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينة} .
والرحمة في هذا كله ظاهرة على أن تلمس مواضع رحمة الله ومظاهرها يستغرق الأعمار والأجيال، فما من لحظة إلا وتغمر العباد فيها الرحمة ..... إنما ذكرنا الرحمة في الابتلاء بالضراء ، لأن هذه هي التي قد تزيغ فيها القلوب والأبصار.
ولن نحاول نحن أن نتقصى مواضع الرحمة الإلهية أو مظاهرها وإن كنا سنشير إشارة مجملة إلى شيء من ذلك فيما يلي :-
ولكننا سنحاول أن نقف قليلاً أمام هذا النص القرآني العجيب { كتب على نفسه الرحمة}.
وقد تكرر وروده في السورة في موضع آخر سيأتي { كتب ربكم على نفسه الرحمة } ، إن الذي يستوقف النظر في هذا النص هو ذلك التفضل الذي أشرنا من قبل إليه .... تفضل الخالق المالك ذي السلطان القاهر فوق عباده " تفضله سبحانه بأن يجعل رحمته بعباده في هذه الصورة مكتوبة عليه ، كتبها هو على نفسه وجعلها عهداً منه لعباده بمحض إرادته ومطلق مشيئته وهي حقيقة هائلة لا يثبت الكيان البشرى لتميلّها وتأملها وتذوّق وقعها حين يقف لتدبرها في هذه الصورة العجيبة ...
كذلك يستوقف النظر مرة أخرى ذلك التفضل الآخر الذي يتجلى في إخباره لعباده بما كتبه – سبحانه – على نفسه من رحمته ، فإن العناية بإبلاغهم هذه الحقيقة هي تفضل آخر لا يقل عن ذلك التفضل الأول!
فمن هم العباد حتى تبلغ العناية بهم أن يبلّغوا ما جرت به إرادة الله في الملأ الأعلى ؟ وأن يبلَّغوا بكلمات منه سبحانه يحملها إليهم رسوله ؟ من هم ؟ إلا أنه الفضل العميم ، الفائض من خلق الله الكريم؟ !
إن تدبر هذه الحقيقة على هذا النحو ليدع القلب في عجب وفي دهش كما يدعوا في أنس وفي روح لا تبلغ الكلمات ، أن تصور جوانبه وحواشيه!
ومثل هذه الحقائق ، وما تثير في القلب من مشاعر ، ليس موكولاً إلى تعبير البشري ليبلغ شيئاً في تصويره ، وإن كان القلب البشري مهيأ لتذوقه لا لتعريفه ؟
وتمثل هذه الحقيقة في التصور الإسلامي يكوّن جانباً أساسياً من تصور حقيقة الألوهية ، وعلاقة العباد بها......
وهو تصور جميل مطمئن ودود لطيف ، يعجب الإنسان معه لمناكيد الخلق الذين يتقولون على التصور الإسلامي في هذا الجانب لأنه لا يقول ببنوة أحد من عباد الله لله !
على نحو ما تقول التصورات الكنسية المحرفة – فالتصور الإسلامي إذْ يرتفع على هذه التصورات الصبيانية الطفولية ، يبلغ في الوقت ذاته من تصوير العلاقة الرحيمة بين الله وعباده هذا المستوى الذي يعجز التعبير البشري عن وصفه والذي يتْرع القلب بحلاوة مذاقه كما يروعه بجلال إيقاعه.
ورحمة الله تفيض على عباده جميعاً وتسعهم جميعاً ، وبها يقوم وجودهم وتقوم حياتهم ،وهي تتجلى في كل لحظة من لحظات الوجود أو لحظات الحياة للكائنات ، فأما في حياة البشر خاصة فلا نملك أن نتابعها في كل مواضعها ومظاهرها ، ولكننا نذكر منها لمحات في مجاليها الكبيرة .
إنها تتجلى ابتداءً في وجود البشر ذاته في نشأتهم من حيث لا يعلمون وفي إعطائهم هذا الوجود الإنساني الكريم ، بكل ما فيه من خصائص يتفضل بها الإنسان على كثير من العالمين .
وتتجلى في تسخير ما قدر الله أن يسخره للإنسان ، من قوى الكون وطاقته ، وهذا الرزق في مضمونه الواسع الشامل الذي يتقلب الإنسان في بحبوحة منه في كل لحظة من لحظات حياته.
وتتجلى في تعليم الله للإنسان ، بإعطائه ابتداء الاستعداد للمعرفة ، وتقدير التوافق بين استعداداته هذه وإيحاآت الكون ومعطياته هذا العلم الذي يتطاول به بعض المناكيد على الله ، وهو الذي علمهم إياه ! وهو من رِزْق الله بمعناه الواسع الشامل كذلك .
وتتجلى في رعاية الله لهذا الخلق بعد استخلافه في الأرض بموالاة إرسال الرسل إليه بالهدى ، كلما نسي وضل ، وأخْذه بالحلْم كلما لجّّّ في الضلال ، ولم يسمع صوت النذير ولم يصغ للتحذير وهو على الله هيّن ، ولكن رحمة الله وحدها هي التي تمْهله ، وحلم الله وحده هو الذي يسعه .
وتتجلى في تجاوز الله – سبحانه- عن سيآته إذا عمل السوء بجهالة ثم تاب وبكتابة الرحمة على نفسه ممثلة في المغفرة لمن أذنب ثم أناب.
وتتجلى في مجازاته عن السيئة بمثلها ، ومجازاته على الحسنة بعشر أمثالها ، والمضاعفة بعد ذلك لمن يشاء ، ومحو السيئة بالحسنة – وكله من فضل الله ، فلا يبلغ أحد أن يدخل الجنة بعمله إلا أن يتغمده الله برحمته حتى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كما قال عن نفسه في معرفة كاملة بعجز البشر وفضل الله.
والاقتصار منا عن متابعة رحمة الله في مظاهرها، وإعلان القصور والعيِّ عنها، هو أجدر وأولى، وإلا فما نحن ببالغين من ذلك شيئاً ! وإن لحظةً واحدة يفتح الله فيها أبواب رحمته لِقلب العبد المؤمن ، فيتصل به
ويعرفه ويطمئن إليه – سبحانه – ويأمن في كنفه ويستروح في ظله ...
إن لحظة واحدة من هذه اللحظات لتعجيز الطاقة البشرية عن تملِّيها واستجلائها فضلاً عن وصفها والتعبير عنها.
فلننظر كيف مثّل رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الرحمة بما يقرِّبها للقلوب شيئاً ما.
أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما قضى الله الخلق " – وعند مسلم:" لما خلق الله الخلق " كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي سبقت غضبي " ، وعند البخاري في رواية أخرى " إن رحمتي غلبت غضبي " .
وأخرجا أيضاً مرفوعاً " جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين وأنزل في الأرض جزءاً واحداً ، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه " .
وأخرج مسلم مرفوعاً " إن لله مائة رحمة فمنها رحمة يتراحم بها الخلق بينهم وتسعة وتسعون يوم القيامة".
وهذا التمثيل النبوي الموحي يقرب للإدراك البشري تصور رحمة الله تعالى، ذلك إذْ ينظر إلى رحمة الأمهات بأطفالها.
وصلى الله على نبيه وعلى آله وصحبه أجمعين 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

العبر في غزوة أحد

    بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على نبيه الكريم العبر في غزوة أحد لقد وصف القرآن الكريم غزوة أحد وصفا دقيقا، وكان التصوير الق...