بسم الله ارحمن الرحيم
وصلى الله على نبيه الكريم
التزكية وأدب العلم
أولا / التزكية
قال تعالى {قد أفلح من زكيها وقد خاب من دسيها}
فتزكية النفس من مهمات الرسل ،وهي هدف المتقين ،وعليها مدار النجاة والهلاك عند الله عز وجل .
والتزكية في اللغة تأتي على معان : منها التطهير ،ومنها النمو ،
وهي كذلك في الإصطلاح : فزكاة النفس تطهيرها من أمراض وآفات ،وتحققها بمقامات ،وتخلقها بأسماء وصفات .
فالتزكية في النهاية : تطهر وتحقق وتخلق ،ولذلك وسائله المشروعة ،وماهيته ،وثمراته الشرعية .
ويظهر آثار ذلك على السلوك في التعامل مع الله عز وجل ،ومع الخلق ،وفي ضوابط الجوارح على أمر الله .
وأظهر ثمرات النفس المزكاة حسن الأدب ،والمعاملة مع الله والناس ،مع الله قياما بحقوقه بما في ذلك بذل النفس جهادا في سبيله ،ومع الناس على حساب الدائرة ،وعلى مقتضى المقام .
فاعن بها مع الورى ارحم واكفف - أذاك واحتمله منهم والطف
فالتزكية لها وسائل :مثل الصلاة والإنفاق والصوم والذكر والفكر وتلاوة القرآن .
ومن آثار ذلك أن يتحقق القلب بالتوحيد والإخلاص والشكر ...
إن أبرز مشكلات عصرنا الخواء الروحي ،وتغلب الشهوات .
إن المربين في عصرنا يواجهون حالات خطيرة :
فالقلب قسا ،وأمراضه من حسد وعجب أصبحت فاشية ،وحسن التعامل ضعف ،والجهاد ،والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا بد أن يتاثر بذلك .
لذلك لا بد لمريدي تجديد الإسلام أن يفكروا في إحياء المعاني القلبية للعبادات ،وفي تحلية النفس بأخلاق العبودية ،وتخليتها من النزعات الحيوانية والشيطانية .
وإذا كان الثر المباشر لموت القلوب فقدان المعاني القلبية الإيمانية :
من صبر وشكر وخوف من الله ....
وهي أشياء لا بد منها لصلاح الحياة .
وإذا كان من الآثار المباشرة لهذا الموات وجود الحسد والعجب ،والغرور ،وهي أشياء خطيرة جدا على الحياة ،فلقد أصبح التركيز على هذه المعاني واجبا على الذين يريدون إصلاح الحياة الفردية والجماعية .
فما لم تحيى القلوب ،وتزك الأنفس ، ويتأدب مع الله ،ومع خلقه ،فلا جديد على الأرض الإسلامية ،ولا تجديد .
فلا بد من اجتماع المهمات الرئيسية للرسل عليهم الصلاة والسلام وهي :
التذكير ،والتعليم والتزكية .
قال تعالى ((لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ))
ومن اجتمعت له الثلاثة ملك إكسير الحياة .
ذكر وعلم ثم زك أمتك - تكن جديرا بقيام شرعتك
وأهم ما ينبغي أن ينصب عليه وعظ الوعاظ :
التذكير بآيات الله في الافاق والأنفس ،والتذكير بفعل الله وأيامه ،والتذكير بعقوباته وانتقامه ،والتذكير بما أعد ووعد وأوعد لهل طاعته ،وأهل معصيته .
وأهم ما ينبغي أن ينصب عليه تعليم العلماء :
تعليم الكتاب والسنة التي هي شارحة للكتاب .
قال تعالى ((ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ))
وأهم ما ينبغي أن تنصب عليه تربية المربين :
إصلاح القلوب ،وتحسين السلوك .
ثم إن لكل عصر أمراضه
ومن أمراض عصرنا ما أشارت إليه النصوص :
قال صلى الله عليه وآله وسلم ((أول علم يرفع من الأرض الخشوع ))
أخرجه الطبراني بإسناد حسن .
وقال صلى الله عليه وآله وسلم (( يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها قالوا أمن قلة نحن يومئذ يا ر سول الله قال لا بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من قلوب عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن قالوا وما الوهن يا رسول الله قال حب الدنيا وكراهية الموت ))
أخرجه أبو داود وهو حسن .
فأنت ترى أن عصرنا هو هذا العصر الذي قل فيه الخشوع ،وكثر فيه حب الدنيا وكراهية الموت .
والعالم الداعية عليه أن يرتب جلسات الوعظ ،وجلسات العلم ،وجلسات التزكية .
ونقطة البداية في نجاح العمل هو الأدب الذي يحكم العالم والمتعلم .
وأنجح الحركات الدعوية في التاريخ الإسلامي هي التي تركز منذ البداية على :
1- الثقة بالقيادة والقائد ثقة تدعو على الطاعة القلبية
2- الذكر المستمر ،والعلم الشامل واللازم والمناسب
3- اللصوق بالبئة الصالة ،وحضور اجتماعاتها :ذكر ،علم ،وتقوية العلاقات بين أبنائها
4- تنمية آداب العلاقات الطيبة بينها وبين الناس
5- القيام بالخدمة العامة بشغف وإقبال
فما لم ينجح المربي في استخراج الطاعة المبصرة من التلميذ ،ويعوده على العبادة ،ويحققه بالتقوى ،لا يكون قد فعل شيئا.
ثانياً/ آداب المتعلم والمعلم
1- تقديم طهارة النفس عن رذائل الأخلاق ومذموم الأوصاف ؛إذ العلم عبادة القلب وصلاة السر
2- أن يقلل علائقه من الاشتغال بالدنيا ((ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه )) فالعلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك ،فإذا أعطيته كلك فأنت من إعطائه إياك بعضه على خطر .
3- أن لا يتكبر على العالم ..بل يذعن لنصيحته إذعان المريض الجاهل للطبيب المشفق الحاذق ،ويتواضع لمعلمه .
العلم حرب للفتى المتعالي - كالسيل حرب للمكان العالي
4- أن يحترز الخائض في العلم في مبدئ الأمر عن الإصغاء إلى اختلاف الناس ؛فإن ذلك يدهش عقله .
5- أن لا يدع طالب العلم فنا من العلوم المحمودة إلا وينظر فيه ويطلع على مقصده ،فالعلوم الشرعية على درجاتها إما سالكة بالعبد إلى الله تعالى ،أو معينة على السلوك نوعا من الإعانة ،والقوام بها حفظة الشريعة كحفاظ الرباطات والثغور .
6- أن لا يخوض في كل فنون العلوم دفعة ،بل يراعي الترتيب ،ويبتدئ بالأهم ،ويصرف جمام قوته إلى استكمال العلم الذي هو أشرف العلوم وهو علم الآخرة ...وهو نوع يقين هو ثمرة نور يقذفه الله تعالى في قلب عبد طهّر بالمجاهدة باطنه عن الخبائث حتى ينتهي إلى إيمان أبي بكر،وأشرف العلوم وغايتها معرفة الله عز وجل .
7- أن لا يخوض في فن حتى يستوفي الفن الذي قبله
8- أن يعرف السبب الذي به يدرك أشرف العلوم ،وأن ذلك يراد به شيئان :
أحدهما : شرف الثمرة ،والثاني :وثاقة الدليل وقوته ،وذلك كعلم الدين ،وعلم الطب ؛فإن ثمرة أحدهما الحياة الأبدية ،وثمرة الآخر الحياة الفانية فيكون علم الدين أشرف .
9 – أن يكون قصد المتعلم في الحال تحلية باطنه وتجميله بالفضيلة ،وفي المآل القرب من الله سبحانه ،والترقي على جوار الملإ الأعلى من الملائكة والمقربين .
ولا يقصد به الرئاسة والمال والجاه ومماراة السفهاء ومباهاة الأقران .
ومن قصد الله تعالى بالعلم أي علم كان ،نفعه ورفعه لا محالة .
تعلموا العلم لوجه الباري - بلا تنافس ولا تماري
ولتقصدوا أربعة عند ابتدا - تعلم لكي تفوزوا باهتدا
أولها الخروج من ضلال - والثاني نفع خلق ذي الجلال
والثالث الإحياء للعلوم - والرابع العمل بالمعلوم
10 – أن يعلم نسبة العلوم إلى المقصد كما يؤثر الرفيع القريب على البعيد ،والمهم على غيره .
ومعنى المهم : ما يهمك ولا يهمك إلا شأنك في الدنيا والآخرة ،وإذا لم يمكنك الجمع بين ملاذ الدنيا ،ونعيم الآخرة كما نطق به القرآن ،وشهد له من نور البصائر ما يجري مجرى العيان ،فالأهم ما يبقى أبد الآباد ،وعند ذلك تصير الدنيا منزلا ،والبدن مركبا ،والأعمال سعيا إلى المقصد ،ولا مقصد إلا لقاء الله تعالى ففيه النعيم كله ،وإن كان لا يعرف في هذا العالم قدره إلا الأقلون .
بيان وظائف المرشد المعلم :
1- الشفقة على المتعلمين ،وأن يجريهم مجرى بنيه ،قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ((إنما أنا لكم مثل الوالد لولده )) أخرجه أبو داود والنسائي
بأن يقصد إنقاذهم من نار الآخرة ،وهو أهم من إنقاذ الوالدين ولدهما من نار الدنيا .
2- أن يقتدي بصاحب الشرع صلوات الله عليه وسلامه ،فلا يطلب على إفادة العلم أجرا ،ولا يقصد به جزاء ولا شكرا ،بل يعلّم لوجه الله تعالى ،ولا يرى لنفسه منة عليهم ،وإن كانت المنة لازمة عليهم ،بل يرى الفضل لهم إذ هذبوا قلوبهم لأن تتقرب إلى الله بزراعة العلوم فيها ،ولينال الثواب عن طريق تعليمهم ((ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله ))
3- أن لا يدع من نصح المتعلم شيئا وذلك كأن يمنعه من التصدي لرتبة قبل استحقاقها ،ويرسخ فيه نية التقرب إلى الله ،دون الرياسة والمباهاة ،فليس ما يصلحه العالم الفاجر بأكثر مما يفسده .
4- أن يزجر المتعلم عن سوء الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن ،ولا يصرح ،وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ ؛فإن التصريح يهتك حجاب الهيبة ،ويورث الجرأة على الهجوم بالخلاف .
5- أنه إذا علمه علما فلا ينبغي ان يقبح عنده بقية العلوم .
6- أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه ،فلا يلقي إليه ما لا يبلغه عقله فينفره ،أو يخبط عليه عقله اقتداء في ذلك بسيد البشر صلى الله عليه وسلم .
قال ابن مسعود : ما أحد يحدث قوما بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة على بعضهم .
وليس الظلم في إعطاء غير المستحق بأقل من الظلم في منع المستحق
فمن منح الجهال علما أضاعه – ومن منع المستوجبين فقد ظلم
7- أن المتعلم القاصر ينبغي أن يلقي إليه الجلي اللائق به ،ولا يذكر له أن وراء هذا تدقيقا ،فذلك يشوش عليه قلبه ،فما من أحد إلا وهو راض عن الله سبحانه في كمال عقله ،وأشدهم حماقة وأضعفهم عقلا هو أفرحهم بكمال عقله ،وبهذا يعلم أن من تقيد من العوام بقيد الشرع ،ورسّخ في نفسه العقائد المأثورة عن السلف من غير تشبيه ،ومن غير تأويل ،وحسن مع ذلك سريرته ،ولم يحتمل عقله أكثر من ذلك ،فلا ينبغي أن يشوش عليه اعتقاده ،بل لا ينبغي أن يخاض مع العوام في حقائق العلوم الدقيقة ،بل يقتصر معهم على تعليم العبادات ،وتعليم الأمانة في الصناعات التي هم بصددها ،ويملأ قلوبهم من الرغبة والرهبة في الجنة والنار كما نطق به القرآن ،ولا يحرك عليهم شبهة ؛فإنه ربما تعلقت الشبهة بقلبه ويعسر عليه حلها فيشقى ويهلك
8- أن يكون المعلم عاملا بعلمه
فلا يكذب قوله فعله ؛لأن العلم يدرك بالبصائر، والعمل يدرك بالأبصار ،وأرباب الأبصار أكثر ،فإذا خالف العمل العلم منع الرشد ،ولذلك كان وزر العالم في معاصيه أكثر من وزر الجاهل ؛إذ يزل بزلته عالم كثير ويقتدون به ,
قال علي رضي الله عنه : قصم ظهري رجلان : عالم متهتك ،وجاهل متنسك ،فالجاهل يغر الناس بتنسكه ، والعالم يغرهم بتهتكه .
- والتكليفات الإلهية تنصب على ما فيه صلاح الفرد والمجموع
- ونقطة البداية والنهاية في التكليف الرباني التوحيد فهو الذي يطهر النفس من أدران الشرك ،وما يستتبعه الشرك من عجب وغرور وكبر ،وحسد وغير ذلك ،وبقدر ما يتعمق التوحيد في النفس تزكو وتحقق بثمرات :
من صبر، وشكر ،وعبودية، وتوكل، ورضا ،وخوف، ورجاء، وإخلاص، وصدق ،
لذلك كان التوحيد هو البداية والنهاية .
ولا يعمق معنى الخير في النفس كأمرها به ،ولا يعمق نفارها من الشر كنهيها عنه ،لذلك كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلة من وسائل تزكية النفس .
والجهاد من وسائل التزكية ،بل هو من أرقاها ،ولا يقبل عليه في الغالب إلا زكي النفس .
ومن وسائل التزكية الخدمة العامة والخاصة ،والتواضع فإنهما ينفيان الكبر والعجب ،ويعمقان الألفة والتوادد ،وقد أُمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم
قال تعالى {واخفض جناحك للمؤمنين}
والعبادات الرئيسية في الإسلام منورة ،ومطهرة بقدر ما تلاحظ معانيها الباطنة ،كأن يرافق الصلاة الخشوع ،والزكاة حسن النية ،وتلاوة القرآن حسن التدبر ،والذكر الحضور ،هذا النوع من الأداء هو المنور المطهر على الكمال والتمام .
وصلى الله على نبيه الكريم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق