الجمعة، 30 مارس 2012

" أهمية استغلال الوقت "

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على نبيه الكريم

" أهمية استغلال الوقت "

*تمهيد*
قال تعالى { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى} ، ونهي النفس أي زجرها عن المعاصي والمحارم ، قال سهل ( ترك الهوى مفتاح الجنة لهذه الآية ) ، وقال عبد بن مسعودy: (أنتم في زمان يقود الحق الهوى وسيأتي زمان يقود الهوى الحق فنعوذ بالله من ذلك الزمان ).([1])
قال ابن القيم – رحمه الله تعالى – ( أصل الخير كله بتوفيق الله تعالى ومشيئته وشرف النفس ونبلها وكِبَرها وأصل الشر خستها ودناءتها وصغرها ، قال الله تعالى { قد أفلح من زكاها وقد خاب من دسها } ، أي أفلح من كبرها وكثرها ونماها بطاعة الله تعالى ، وخاب من صغرها وحقرها بمعاصي الله تعالى.
فالنفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا أعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبة ، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناآت وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار ، فالنفس الشريفة العلية لا ترضى بالظلم وبالفواحش ولا بالسرقة والخيانة لأنها أكبر من ذلك وأجلُّ ، والنفس المهينة الحقيرة الخسيسة بالضد من ذلك.
فكل نفس تميل إلى ما يناسبها ويشاكلها ويناسبه فهو يعمل على طريقته التي تناسب أخلاقه وطبيعته ...فالفاجر يعمل بما يشبه طريقته من مقابلة النعم بالمعاصي والإعراض عن النعم ، والمؤمن يعمل بما يشاكله من شكر المنعم ومحبته والثناء عليه والتودد عليه والحياء منه والمراقبة له وتعظيمه وإجلاله.([2])

...............................
وقد ورد في الشرع بالحث على العمل والمبادرة واغتنام الفرص ، فقال تعالى { وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون ، واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون ، أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين } ، وقال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون ، وأنفقوا مما رقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول ربي لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين...الآية} ، وقال تعالى { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السموات والأرض أعدت للمتقين } ، وقال عن المخلفين { سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا..الآية}.
وقال تعالى { يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ، إن الشيطان لكم عدوٌ فاتخذوه عدوا ....الآية}.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس –رضي الله عنهما-قال قالَ رسول الله r " نعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ " ، وقال r لرجل وهو يعظه " اغتنم خمساً قبل خمس شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك ".


قال عمر y (( التؤدة في كل شيء خير إلا ما كان من أمر الآخرة )) ، وكان الحسن البصري يقول: (عجبا لقوم أمروا بالزاد ونودي فيهم الرحيل وحبس أولهم على آخرهم وهم قعود يلعبون ).
وكان ابن عمر y يقوم الليل فيتوضأ ويصلي ثم يُغفي إغفاء الطير ثم يقوم فيتوضأ ويصلي ثم يغفي إغفاء الطير ثم يقوم يصلي يفعل ذلك مراراً، وكان عمير بن هانئ يسبح كل يوم مائة ألف تسبيحة.
لأجل هذا عظمت مراعاة السلف الصالح –رضي الله عنهم –لأنفاسهم ولحظاتهم وبادروا إلى اغتنام ساعاتهم وأوقاتهم ولم يضيعوا أعمارهم في البطالة والتقصير ، ولم يقنعوا من أنفسهم لمولاهم إلا بالجد والتشمير ، وقد علي y : "بقية عمر المؤمن مالها ثمن يدرك فيها ما فات ويحيي ما أمات".
ولأجل محافظتهم على الأوقات لا يرتكبون المباحات الأبنية تقلبها قربة فتكون من المندوبات أو الواجبات ، كان عمر ابن الخطاب y " إذا جن عليه الليل حاسب نفسه وربما ضرب نفسه بالدرة " ، قال المناوي ناقلا عن ابن العربي (( كان أشياخنا يحاسبون أنفسهم على ما يتكلمون به ويفعلونه ويقيدونه في دفتر فإذا كان بعد العشاء حاسبوا نفوسهم وأحضروا دفترهم ونظروا فيما صدر منهم من قول أو عمل وقابلوا كلاَّ بما يستحقه إن استحق استغفارا أو توبة تابوا أو شكرا شكروا ثم ينامون ، فزدنا عليهم في هذا الباب الخواطر فكنا نقيد ما نحدث به أنفسنا ونهم به ونحاسبهم عليه([3]).
وعن ابن عمر y قال: أخذ رسول الله r بمنكبي فقال: " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل " ، وكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك ).
وروى الحاكم مرفوعا : ( إن خوف ما أخاف على أمتي الهوى وطول الأمل أما الهوى فيضل عن الحق وأما طول الأمل فيُنسى الآخرة ).([4]).
قال تعالى { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه }.

قال الله تعالى { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } ، وقال تعالى { ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه...} ، فاقتضت هذه الآيات وما أشبهها خطرا لحساب في الآخرة ، وتحقق أرباب البصائر أنهم لا ينجيهم من هذه الأخطار إلا لزوم المحاسبة لأنفسهم وصدق المراقبة فمن حاسب نفسه في الدنيا خفّ في يوم القيامة حسابه وحسن منقلبه ومن أهمل المحاسبة دامت حسراته فلما علموا أنه لا ينجيهم إلا الطاعة وقد أمرهم الله تعالى بالصبر والمرابطة فقال { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون } ، فرابطوا أنفسهم أولا بالمشارطة ثم المراقبة ثم بالمحاسبة ثم بالمعاقبة ثم بالمجاهدة ثم بالمعاتبة فكانت لهم في المرابطة ست مقامات وأصلها المحاسبة.


ولكن كل حساب يكون بعد مشارطة ومراقبة ويتبعه عند الخسران المعاتبة والمعاقبة ، أما المشارطة فأن يقول للنفس مالي بضاعة إلا العمر فنيَ فنِيَ رأس المال ووقع اليأس من التجارة وطلب الربح وهذا اليوم الجديد قد أمهلني الله فيه فإياك إياكَ أن تضيعه ، ثم يستأنف لها وصية أخرى في أعضائه السبعة: العين والأذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل ، فإذا أوصى نفسه وشرط عليها ما ذكرناه فلا يبقى: إلا المراقبة لها عند الخوض في الأعمال فإنها إن تركت طغت وفسدت وتكون له ساعة يحاسبها كالتاجر مع عماله ، فإنه إن وجد فضلا شكره وإن وجد خسرانا طالبه بضمانه وكلفه تداركه في المستقبل ، فكذلك رأس مال العبد في دينه الفرائض وربحه النوافل والفضائل وخسرانه المعاصي وموسم هذه التجارة جملة النهار وعامله نفسه الأمارة بالسوء فيحاسبها على الفرائض فإذا أداها على وجهها شكر الله عليها ورغّبتها في مثلها ، وإن فوتها من أصلها طالبها بالقضاء وإن أداها ناقصة كلفها الجبران بالنوافل وإن ارتكبت معصية اشتغل بعقابها ومعاتبتها ولا يمهلها لئلا تتأنى بفعل المعاصي ويعسر عليه فطامها – المراقبة ، ودليل المراقبة حديث " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " أراد بذلك استحضار عظمة الله تعالى ومراقبته في حال عبادته.
وينبغي أن يراقب الإنسان نفسه قبل العمل وفي العمل هل حركه عليه هوى النفس ، أو المحرك هو الله خاصة فإن كان لله تعالى أمضاه وإلا تركه وهذا هو الإخلاص.
ومراقبته في المعصية تكون بالتوبة والندم والإقلاع ، ومراقبته في المباح تكون بمراعاة الأدب والشكر على النعم فإنه لا يخلو من نعمة لا بد من الشكر عليها ، أو بلية فلا بد من الصبر عليها أو كل ذلك من المراقبة.


-تنظيم الوقت-
قال وهب بن منبه في حكمه آل داود حق على العاقل أن لا يُشغل عن أربع ساعات ؛ ساعة يناجي ربه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يُفضي فيها إلى إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه ، وساعة يُخلّي بين نفسه وبين ذاتها فيما يحل ولا يحرم فإن هذه الساعة عون على هذه الساعات وإجمام للقوة.


*المحاسبة بعد العمل*
دليلها قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد...الآية } ، وهذه إشارة إلى المحاسبة بعد مضي العمل ولذلك قال عمر y:حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا .
وقال الحسن البصري –رحمه الله تعالى -: ( المؤمن قوام على نفسه يحاسب نفسه )، وقال أيضا ( أن المؤمن يفجؤه الشيء يعجبه فيقول: والله إني لأشتهيك وإنك لمن حاجتي ولكن والله ما من حيلة إليك هيهات حيل بيني وبينك ، ويُفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أرادت هذا ما لي ولهذا ؟ والله لا أعود إلى هذا أبدا إن شاء الله تعالى ، وإن المؤمنين قومٌ أوثقهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم ، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته لا يأمن شيئا حتى يلقى الله عز وجل يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وفي بصره وفي لسانه وفي جوارحه.



* معاقبة النفس على تقصيرها *
وينبغي إذا رأى من نفسه تقصيرا أن يعاقبها عقوبة مباحة كما يعاقب أهله وولده ، كما روى عن عمر y أنه خرج إلى حائط له ثم رجع وقد صلى الناس العصر فقال: إنما خرجت إلى حائطي صدقة على المساكين ، قال اللبث إنما فاتته الجماعة ، وشغله أمر عن المغرب حتى طلع نجمان فلما صلاها أعتق رقبتين.
ونام نميم الداري ليلة لم يتهجد فيها حتى أصبح فقام سنة لم يتم فيها عقوبة للذي صنع ، ومرّ حسان بن سنان بغرفة ، فقال: متى بنبت هذه ؟ ثم أقبل على نفسه فقال: تسألين عمالا يعنيك ! لأعاقبنك بصوم سنة فصامها.....الخ





*المجـــــــــــــــــــــــاهدة*
وهي أنه إذا رأى نفسه تتوانى بحكم الكسل في شيء من الفضائل أو ورد من الأوراد فينبغي له أن يؤدبها بتثقيل الأوراد عليها.
كما ورد عن ابن عمر –رضي الله عنهما- أنه فاتته صلاة في جماعة فأحيا تلك الليلة كلها ، وإذا لم تطاوعه نفسه على الأوراد فإنه يجاهدها ويكرهها ما استطاع ، قال ابن المبارك : ( إن الصالحين كانت أنفسهم تواتيهم على الخير عفوا وإن أنفسنا لا تواتينا إلا كرها ).
ومما يستعان به عليها أن يسمعها أخبار المجتهدين وما ورد في فضلهم ويصحب من يقدر عليه منهم فيقتدى بأفعاله ، قال بعضهم : كنت إذا اعترتني فترة في العبادة نظرت إلى وجه محمد ابن الواسع وإلى اجتهاده فعملت على ذلك أسبوعاً ، وقد كان عامر بن عبد قيس يصلي كل يوم ألف ركعة ، وكان الأسود بن يزيد يصوم حتى يخضر ويصفر ،وحج مسروق فما نام إلا ساجدا ، وكان داود الطائي يشرب الفتيت مكان الخبز ويقرأ بينهما خمسين آية ، وكان كرز بن وبرة يختم كل يوم ثلاث ختمات ، وكان عمر بن عبد العزيز وفتح الموصلي يبكيان الدم ، وصلى أربعون شخصا من القدماء الفجر بوضوء العشاء ، وجاور أبو محمد الحريري سنة فلم يتم ولم يتكلم ولم يستند إلى حائط ولم يمد رجله فقال له أبو بكر الكتاني بم قدرت على هذا ؟ قال علم صدق باطني فأعانني على ظاهري ، ودخلوا على زحلة العابدة فكلموها بالرفق بنفسها فقالت: إنما هي أيام مُبادرة فمن فاته اليوم شيءٌ لم يُدركه غداً ، والله يا إخوتاه لأصلينّ لله ما أقلّتني جوارحي ولأصومنّ له في أيام حياتي ، ولأبكينّ ما حملت الماء عيناي ، ومن أراد أن ينظر سير القوم ويتفرج في بساتين مجاهدتهم ، فلينظر في كتاب صفة الصفوة لابن الجوزي فإنه سيره من أخبار القوم ما يعد نفسه بالإضافة إليهم من الموتى ، بل من أخبار المتعبدات من النسوة ما يحقر نفسه عند سماعه ويمقتها.






*معاتبة النفس وتوبيخها*
قال أبو بكر الصديقy : من مقت نفسه في ذات الله آمنه الله من مقته ، وعن أنس y قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه ودخل حائطا يقول وبيني وبينه جدار عمر بن الخطاب أمير المؤمنين بخ بخ والله لتتقين الله با ابن الخطاب أو ليغد بنك ، وقال البختري بن حارثة : دخلت على عابد فإذا بين يديه نار قد أججها وهو يعاتب نفسه فلم يزل يعاتبها حتى مات ، وكان بعضهم يقول: إذا ذكر الصالحون فأف لي وتف ، هذه نبذة موجزة عن سير هؤلاء الصالحين وكيف كان اجتهادهم ، واغتنامهم لساعات هذا العمر القصير الذي نظن المرء يوم القيامة أنه والدنيا كلها كساعة ، قال تعالى {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار}.
قال بعضهم : إذا جمع عمري كساعة فلم لأكون ضنينا بها وأجعلها في بر وطاعة ، فنسأل الله العظيم كما وفقهم أن يوفقنا ، وكما أصلحهم أن يصلحنا إنه جواد كريم رءوف الرحيم.




وصلى الله على نبيه الكريم،،،


[1] انظر تفسير القرطبي 19/208
[2] انظر الفوائد ص (254)
[3] انظر حاشية ابن حمدون ص (687-688).
[4] سنده ضعيف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق