الجمعة، 30 مارس 2012

((التوبة إلى الله تعالى))

{ بسم الله الرحمن الرحيم }
((التوبة إلى الله تعالى))


إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه، ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد الله أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له ،وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين .

وبعد :

فإنه لما كان العبد معرضا للقصور والتقصير والخطيئة والعصيان، شرع له المليك الديان، الرحيم الرحمان ،تلافي ذلك التقصير بالتوبة والاستغفار ، لتمحى عنه تلك الأوزار ،ويجتبيه واسع المغفرة فيطهره من تلك الآثام، كرما منه سبحانه وإحسان ،أردت أن أذكر بعض ما يتعلق بها تبصرة وذكرى لأولي الألباب .


وسأتناول الموضوع حسب النقاط التالية :
1- تعريف التوبة وأهميتها وحقيقتها
 2- حكم التوبة 
 3- فرائض التوبة وآدابها
 4- مراتب التوبة
5- البواعث على التوبة




* أولا تعريف التوبة وأهميتها وحقيقتها *
 
قال الفيروز آبادي (تاب إلى الله توبا وتوبة ومتابا ...رجع عن المعصية وهو تائب وتواب ، وتاب الله عليه وفقه للتوبة ،أو رجع به من التشديد إلى التخفيف ،أو رجع عليه بفضله وقبوله وهو تواب على عباده ) القاموس المحيط 1- 41
وقال الجرجاني (التوبة : الرجوع إلى الله بحل عقدة الإصرار عن القلب ،ثم القيام بكل حقوق الرب ) التعريفات ص- 70
وعن أهميتها يقول الغزالي رحمه الله تعالى :(أما بعد فإن التوبة عن الذنوب بالرجوع إلى ستار العيوب وعلام الغيوب مبدأ طريق السالكين ،ورأس مال الفائزين ،وأول أقدام المريدين ،ومفتاح استقامة المائلين ،ومطلع الاصطفاء والاجتباء للمقربين ،ولأبينا آدم عليه الصلاة والسلام وعلى سائر الأنبياء أجمعين ،وما أجدر الأولاد بالاقتداء بالآباء والأجداد ...ولقد قرع آدم سن الندم وتندم على ما سبق منه وتقدم ،فمن اتخذه قدوة في الذنب دون التوبة فقد زلت به القدم ...وكل عبد مصحح نسبه إما إلى الملك أو إلى آدم أو إلى شيطان .
فالتائب قد أقام البرهان على صحة نسبه إلى آدم بملازمة حد الإنسان المتلافي للشر بالرجوع إلى الخير .
والمصر على الطغيان أقر على نفسه بنسب الشيطان .((الإحياء 4- 144))

وأما حقيقة التوبة فهي عبارة عن معنى ينتظم من علم ،وحال ،وفعل والمراد بهذا العلم الإيماٍن واليقين ،فإن الإيمان عبارة عن التصديق بأن الذنوب سموم مهلكة .واليقين عبارة عن تأكد هذا التصديق فيثمر نور هذا الإيمان مهما أشرق على القلب نار الندم فيتألم القلب حيث يبصر بإشراق نور الإيمان أنه صار محجوبا عن محبوبه ...فتشتعل نيران الحب في قلبه وتنبعث تلك النيران بإرادته للانتهاض للتدارك .
فالعلم والندم والقصد المتعلق بالترك في الحال والاستقبال والتلافي للماضي ثلاثة معان مرتبة في الحصول فيطلق اسم التوبة على مجموعها .

وقد يطق اسم التوبة على الندم لحديث (الندم توبة ) رواه ابن ماجه وابن حبان والحاكم وصحح إسناده .
((خطورة المعاصي))

فالمعاصي للإيمان كالمأكولات المضرة للأبدان ،فلا تزال تجتمع في الباطن حتى تغير مزاج الأخلاط وهو لايشعر بها إلى أن يفسد المزاج فيمرض دفعة ثم يموت دفعة ،فكذلك العاصي يخاف عليه سوء الخاتمة .
انظر الإحياء(( 4- 146 – 163)).

والتوبة لفظ يشترك فيها العبد والرب سبحانه وتعالى ،فإذا نسب إلى العبد فالمعنى أنه رجع إلى ربه عن المعصية ،وإذا وصف بها الرب تبارك وتعالى فالمعنى أنه رجع إلى عبده برحمته وفضله .وأما عن اتصاف الله بأنه تواب بصيغة المبالغة فالمراد بذلك المبالغة في الفعل وكثرة قبوله ،أو أنه لكثرة من يتوب إليه تعالى ،أو أنه الملهم لعباده أن يتوبوا . انظر تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور 1- 59
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى (وتوبة العبد إلى الله محفوفة بتوبة من الله عليه قبلها. وتوبة منه بعدها ، فتوبته بين توبتين من ربه سابقة ولاحقة .فإنه تاب عليه أولا إذنا وتوفيقا وإلهاما فتاب العبد ،فتاب الله عليه ثانيا قبولا وإثابة
قال الله سبحانه وتعالى (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم ) فأخبر سبحانه أن توبته عليهم سبقت توبتهم ،وأنها هي التي جعلتهم تائبين .فكانت سببا مقتضيا لتوبتهم .فدل على أنهم ما تابوا حتى تاب الله عليهم .والحكم ينتفي لانتفاء علته .
المدارج 1- 312 -313
وقال أيضا (ومنزل التوبة أول المنازل وأوسطها وآخرها فلا يفارقه العبد السالك ولا يزال فيه إلى الممات .وإن ارتحل إلى منزل آخر ارتحل به واستصحبه ونزل به .فالتوبة هي بداية العبد ونهايته .وحاجته إليها في النهاية ضرورية ،كما أن حاجته إليها في البداية كذلك وقد قال الله تعالى (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ) وهذه الآية في سورة مدنية خاطب الله بها أهل الإيمان وخيار خلقه أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم وصبرهم وهجرتهم وجهادهم .ثم علق الفلاح بالتوبة تعليق المسبب بسببه وأتى بأداة (لعل )المشعرة بالترجي إيذانا بأنكم إذا تبتم كنتم على رجاء الفلاح فلا يرجو الفلاح إلا التائبون جعلنا الله منهم .قال تعالى (ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ) قسم العباد إلى تائب وظالم ،وما ثم قسم ثالث البتة ،وأوقع اسم الظالم على من لم يتب .ولاأظلم منه لجهله بربه وبحقه ،وبعيب نفسه وآفات أعماله .المدارج 1- 178
وقال أيضا (والتوبة حقيقة دين الإسلام ،والدين كله داخل في مسمى التوبة، وبهذا استحق التائب أن يكون حبيب الله ،فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين .وإنما يحب الله من فعل ما أمر به، وترك مانهى عنه .فإذا التوبة هي الرجوع مما يكرهه الله ظاهرا وباطنا إلى ما يحبه ظاهرا وباطنا .ويدخل في مسماها الإسلام والإيمان والإحسان ،وتتناول جميع المقامات ،ولهذا كانت غاية كل مؤمن وبداية الأمر وخاتمته ...وهي الغاية التي وجد لأجلها الخلق ،والأمر والتوحيد جزء منها ،بل هو جزؤها الأعظم الذي عليه بناؤها .وأكثر الناس لايعرفون قدر التوبة ،ولا حقيقتها فضلا عن القيام بها علما وعملا وحالا ..فجميع ما يتكلم فيه الناس من المقامات والأحوال هو تفاصيل التوبة وآثارها ) المدارج 1-306- 307





* ثانيا: حكم التوبة *
قال النووي رحمه الله تعالى (وقد تظاهرت دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوب التوبة
قال الله تعالى (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ) وقال تعالى (واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه )
وقال تعالى (يأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا )
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة ) "روه البخاري"
وعن الأغر يسار المزني رضي الله عنه قال قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يأيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب في اليوم مائة مرة" "رواه مسلم"
وعن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها" "رواه مسلم".
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر" " "رواه الترمذي وقال حديث حسن". (رياض الصالحين) ص(31-33)
وقال أيضا (التوبة من جميع المعاصي واجبة على الفور لايجوز تأخيرها سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة .
والتوبة من مهمات الإسلام وقواعده المتأكدة ووجوبها عند أهل السنة بالشرع ) شرح مسلم للنووي 17- 59
فيستفاد من هذا أن التوبة واجبة على الفور من كل ذنب ، وهي مقبولة ما لم تطلع الشمس من مغربها ، أو يصل العبد إلى حال الغرغرة.





- الباعث على التوبة -



قال القرطبي – رحمه الله -: ( قال علماؤنا الباعث على التوبة وحل الإصرار، إدامة الفكر في كتاب الله العزيز الغفار ، وما ذكره سبحانه من تفاصيل الجنة ووعد به المطيعين ، وما وصفه من عذاب النار وتهدد به العاصين ،ودام على ذلك حتى قوي خوفه ورجاؤه فدعا الله رغباً ورهباً ، والرغبة والرهبة ثمرة الخوف والرجاء يخاف من العقاب ويرجو الثواب والله الموفق للصواب.
وقد قيل: إن الباعث على ذلك تنبيه إلهي ينبه به من أراد سعادته لقبح الذنوب وضررها إذ هي سموم مهلكة ، قلت – أي القرطبي- وهذا خلاف في اللفظ لا في المعنى فإن الإنسان لا يتفكر في وعد الله ووعيده إلا بتنبيهه فإذا نظر العبد بتوفيق الله تعالى إلى نفسه فوجدها مشحونة بذنوب اكتسبها وسيئات اقترفها.
وانبعث منه الندم على ما فرط وترك مثل ما سبق مخافة عقوبة الله تعالى صدق عليه أنه تائب فإن لم يكن كذلك كان مصراً على المعصية وملازماً لأسباب الهلكة ، قال سهل بن عبد الله: ( علامة التائب أن يشغله الذنب عن الطعام والشراب كالثلاثة الذين خلفوا ) "تفسير القرطبي (211-212)





ثالثاً: فرائض التوبة وآدابها
 
قال ابن جزي – رحمه الله تعالى -: ( فرائض التوبة ثلاثة)
أحدها: " الندم على الذنب من حيث عصي به ذو الجلال لا من حيث أضر ببدن أو مال".
ثانياً : " الإقلاع عن الذنب في أول أوقات الإمكان من غير تأخير ولا توان".
ثالثاً : " العزم أن لا يعود إليها أبداً ومهما قضي عليه بالعود أحدث عزماً مجدداً".
وآدابــــــــــها (ثلاثةً)
1-" الاعتراف بالذنب مقرونا بالانكسار"
2-"الإكثار من التضرع والاستغفار"
3-"الإكثار من الحسنات لمحو ما تقدم من السيئات".





رابعاً: مراتب التوبة
1- فتوبة الكفار من الكفر.
2- وتوبة المخلطين من الذنوب الكبائر.
3- وتوبة العدول من الصغائر.
4- وتوبة العابدين من الفترات.
5- وتوبة السالكين من علل القلوب والآفات.
6- وتوبة أهل الورع من الشبهات.
7- وتوبة أهل المشاهدة من الغفلات.




البواعث على التوبة
-
1- خوف العقاب.
2- رجاء الثواب.
3- الخجل من الحساب.
4- محبة الحبيب.
5- مراقبة الرقيب القريب.
6- تعظيم المقام.
7- شكر الأنعام. "التسهيل (3/65)


وقال سفيان بن عيينة: ( التوبة نعمة من الله تعالى ، أنعم الله بها على هذه الأمة دون غيرها من الأمم) "تفسير القرطبي 1/401"
قال القرطبي: ( فما أنعم الله على هذه الأمة نعمة بعد الإسلام هي أفضل من التوبة) " نفســـه (1/402).
 



ــالأمر بالتوبة النصوح –

والتوبة النصوح مهمة ولا سيما في حق من عزم على أداء فريضة الحج تلك الفريضة العظيمة التي إن اتصفت بالبر والتوبة الصادقة رجع صاحبها من ذنوبه كيوم ولدته أمه .
قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً }، قال عنها عمر ابن الخطاب وأبي بن كعب رضي الله عنهما هي (أن يتوب من الذنب ثم لا يعود إليه، كما لا يعود اللبن إلى الضرع).
وقال الحسن البصري - رحمه الله تعالى -: ( هي أن يكون العبد نادماً على ما مضى مجمعاً على أن لا يعود فيه).
وقال الكلبي: ( هي أن يستغفر باللسان ويندم بالقلب ويمسك بالبدن).
وقال ابن القيم: ( النصح في التوبة يتضمن ثلاثة أشياء:-
1- تعميم جميع الذنوب واستغراقها بها حيث لا تدع ذنباً إلا تناولته).
2- إجماع العزم والصدق بكليته عليها بحيث لا يبقى عنده تردد ولا تلوم ولا انتظار، بل يجمع عليها كل إرادته وعزيمته مبادراً بها.
3- تخليصها من الشوائب والعلل القادحة في إخلاصها ووقوعها لمحض الخوف من الله تعالى وخشيته ، والرغبة فيما لديه والرهبة مما عنده ، لا كمن يتوب لحفظ جاهه وحرمته ومنصبه ورياسته ولحفظ حاله أو لحفظ قوته وماله ، أو استدعاء حمد الناس ، أو الهرب من ذمهم ، أو لئلا يتسلط عليه السفهاء أو لقضاء نهمته من الدنيا ، أو لإفلاسه وعجزه ، ونحو ذلك من العلل التي تقدح في صحتها وخلوصها لله عز وجل. (المدارج 1/309-310).






- بم تصيـــــر الصغيرة كبيرة -
تصير الصغيرة كبيرة في الأمور التالية:-
1- بالإصرار عليها. ولذا يقال لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار.
2- باستصغارها.
3- بالفرح بها.
4- بالتحدث بها افتخاراً.
5- بالمجاهرة بها بلا حياء.
6- بصدورها من مقتدى به.(انظر حاشية ابن حمدون ص(611).
** وحقوق العباد التي يتاب منها خمســـــــة:- **
1- مالية كالغصب والسرقة.
2- وعرضية كالغيبة.
3- دينية كتكفيره وتفسيقه.
4- بدنية كالقتل والجرح.
5- حرمية كالخيانة في الأهل والولد.


**شرحــــــــــــــــــــها**
- والعرضية فيها خلاف ، والمشهور وجوب الاستحلال ويعلم المغتاب بما اغتابه به ليحلله منه، فإن لم يعينه له، وأبرأه منه إجمالاً ففي كفاية ذلك قولان والأصح كفايته ، ويمكن المقذوف أو وارثه من استيفاء حد القذف منه.
- والدينية كأن يكفره أو يفسقه أو يبدعه
قال ابن رشد: ( يكذب نفسه عند من قال ذلك فيه ويستحله.
- والبدنية اختلف في قتل النفس منها هل يجب تمكين نفسه من القود وعليه الغزالي في الإحياء ، أو لا يجب وهو ظاهر الأحاديث ومال إليه ابن رشد قال: وينبغي أن يعتق ويحمل نفسه على الجهاد ونحوه ليكون كفارة له، ويجب التمكين من القصاص في الضرب والجرح غير المخوفين.
- والحرمية قال في النصيحة: ( يتعين فيها عدم الاستحلال ونحوه في الإحياء ، لأن الاستحلال منها زيادة في الإذاية، والذمي كالمسلم في ماله وعرضه ونفسه.(انظر حاشية ابن حمدون ص(614-615).
((والله أسأل أن يرزقنا وإخواننا المسلمين توبة صادقة نصوحاً ظاهرة وباطنة وأن يتقبلها منا إنه سميع قريب مجيب رحيم ودود))









اللهم اجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق