الثلاثاء، 13 مارس 2012

نماذج من المصلحين

بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على نبيه الكريم
" مقومات المصلح والحاجة إلى المجددين "
يقول أبو حسن الندوي: ( إن الأديان لا تعيش ولا تزدهر ولا تعود إلا نشاطها وشبابها بعد اضمحلا لها وضعفها ، ولا تنسجم مع المجتمع المعاصر والابتلاء مع روح العصر إلا عن طريق الرجال النوابغ الذين يظهرون فيها حينا بعد حين ، يملكون الإيمان القوي الجديد وسموا روحيا لا يشاركهم فيه عامة الناس ، ونزاهة ممتازة عن الأغراض وغروفا عن الشهوات وتفانيا في المبادئ والعقائد في سبيل الدعوة ، ومستوى عقليا وعليما أرقى من الكثير ينفخون في أمنهم روحا جديدة ، ويخلقون في أتباع دينهم إيمانا جديدا وثقة جديدة ، ويلهبون نفوسهم بحاسة دينية جديدة ، وذلك لأن مطالب الحياة وتكاليفها متجددة ، وإغراءات المادية القوية جديدة دائما ، وشجرة المادية لا تذوى ولا يعروها الذبول وهي خضراء ، لا تنقطع أثمارها وللمادية - مع أنها غنية بسحرها على النفوس وإغرائها للطبائع عن الدعاة والترغيب - في كل عصر دعاة متحمسون ورجال مخلصون ، فإذا أصاب الدعوة دينية الوهن ، وإذا أصيب أهل دين بضعف في العقيدة ، أو ضعف في الخُلق أو ضعف في الدعوة لم يستطيعوا أن يقاموا المادية الفتية والدعوات المعارضة القوية.
إن الأصنام - باختلاف أنواعها - لا تزال محتلة للحياة ، وإن اللات ومناة - وهما رفران للوثنية والهوى - لا تزالان في شبابهما وجدتهما كما يقول إقبال ، فلا يظن الداعي أنه قد انتهت مهمته ، ولا يمكن مقاومة المادية الفتاة ، ولا يمكن سحب اللاة ومناة عن الحياة إلا بالدين القوة والإيمان الجديد والدعوة المتحمسة والعلم الراسخ والعقل الواسع([1]).
قصة حبيب البخار
قال القرطبي في قصته : ( وفي هذه الآية تنبيه عظيم ودلالة على وجوب كظم الغيظ والحلم عن أهل الجهل والترؤف على من أخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي والتشمر في تخليصه والتلطف في افتدائه ، والاشتغال بذلك عن الشماتة به والدعاء عليه ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته والباغين له الغوائل وكم كفرة عبادة الأصنام.
فلما قتل حبيب غضب الله له وعجل النقمة على قومه فأمر جبريل فصاح بهم صيحة فماتوا عن آخرهم فذاك قوله تعالى { وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء...}.
وكان حبيب هذا نجارا وقيل إسكافا وقيل قصارا ، وقال ابن عباس ومجاهد ومقاتل: هو حبيب بن اسرائيل النجار وكان ينحت الأصنام وهو ممن آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وبينهما ستمائة سنة ، كما آمن به تبع الأكبر وورقة بن نوفل وغيرهما ، ولم يؤمن بنبي أحد إلا بعد ظهوره ، قال وهب: وكان حبيب مجذوما ومنزله عند أقصى باب من أبواب المدينة ، وكان يعكف على عبادة الأصنام سبعين سنة يدعوهم لعلهم يرحمونه ويكشفون ضره فما استجابوا له ، فلما أبصر الرسل دعوه إلى عبادة الله فقال: هل من آية ؟ قالوا: نعم تدعو ربنا القادر فيفرج عنك ما بك فقال: إن هذا لعجب! أدعو هذه الآلهة سبعين سنة تفرج عني فلم تستطع فكيف يفرجه ربكم في غداة واحدة ؟ قالوا: نعم ، ربنا على ما يشاء قدير ، وهذه لا تنفع ولا تضر ، فآمن ودعا ربه فكشف الله ما به ، كأن لم يكن به بأس فحينئذ أقبل على التكسب ، فإذا أمسى تصدق بكسبه فأطعم عياله نصفا وتصدق بنصف ، فلما هم قومه بقتل الرسل جاءهم ف { قال يا قوم اتبعوا المرسلين... } اتبعوا من لا يسألكم أجرا أي لو كانوا متهمين لطلبوا منكم المال " وهم مهتدون " فاهتدوا بهم " وما لي لا أعبد الذي فطرني " أي خلقني " وإليه ترجعون " وهذا احتجاج منه عليهم وأضاف الفطرة إلى نفسه لأن ذلك نعمة عليه توجب الشكر ، والبعث إليهم ، لأن ذلك وعيد يقتضي الزجر فكان إضافة النعمة إلى نفسه أظهر شكرا ، وإضافة البعث إلى الكافر أبلغ أثرا "أأتخذ من دونه آلهة " يعني أصناما "إن يردن الرحمن بضر " يعني ما أصابه من السقم .
" لا تغن عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون" يخلصوني مما أنا فيه من البلاء " إني إذا " يعني إذا فعلت ذلك " لفي ضلال مبين " أي خسران ظاهر " إني آمنت بربكم فاسمعون " ، قال ابن مسعود: خاطب الرسل بأنه مؤمن بالله ربهم ، ومعنى "فاسمعون" أي فاشهدوا ، أي كانوا شهودي بالإيمان ، وقال كعب ووهب: إنما قال ذلك لقومه إني آمنت بربكم الذي كفرتم به ، وقيل: إنه لما قال لقومه " اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا " رفعوه إلى الملك وقالوا قد اتبعت عدونا فطول معهم الكلام ليشغلهم بذلك عن قتل الرسل إلى أن قال " إني آمنت بربكم " ، فوثبوا عليه فقتلوه ، قال ابن مسعود وطئوه بأرجلهم حتى خرج قصبه من دبره وألقى في بئر وهي الرس وهم أصحاب الرس......
والظاهر من الآية أنه لما قتل قيل له أدخل الجنة ، قال قتادة: ادخله الله الجنة وهو فيها حي يرزق أراد قوله تعالى { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون }.
قال " يا ليت قومي يعلمون" وفي معنى تمنيه قولان :أحدهما أنه تمنى أن يعلموا بحاله ليعلموا حسن مآله وحميد عاقبته ، الثاني تمنى ذلك ليؤمنوا مثل إيمانه فيصيروا إلى مثل حاله.
قال ابن عباس: ( نصح قومه حيا وميتا ) رفعه القشيري فقال: وفي الخبر أنه عليه السلام قال في هذه الآية " إنه نصح لهم في حياته وبعد مماته "([2]). "انظر تفسير القرطبي 15/20-22"
قصة أصحاب الأخدود والساحر والراهب والغلام
قال مسلم في صحيحه حدثنا هداب بن خالد حدثنا حماد بن سلمة حدثنا ثابت عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر فلما كبِر قال للملك إني قد كبِرت فابعث إلي غلاما أعلمه السحر فبعث إليه غلاما يعلمه وكان في طريقه إذا سلك راهب فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه فكان إذا أتى الساحر مرّ بالراهب وقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه فشكا ذلك إلى الراهب ، فقال: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي ، وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس ، فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ ، فأخذ حجرا فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس فرماها فقتلها ومضى الناس ، فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ أمرك ما أرى وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدل علي ، وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء فسمع جليس للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال: ما ههنا لك أجمع إن أنت شفيتني قال: إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله تعالى فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك فآمن بالله فشفاه الله ، فأتي الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك: من رد عليك بصرك قال ربي قال: ولك رب غيري قال: ربي وربك الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام فجيء بالغلام فقال له الملك: أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعَل فقال: إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله ، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار فوضع المنشار في تفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه ثم جيء بجليس الملك فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه فذهبوا فصعدوا به الجبل فقال: اللهم اكفينهم بما شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك: ما فعل أصحابك ؟ قال: كفانيهم الله ، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور فتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه فذهبوا به فقال: اللهم اكفينهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة فغرقوا ، وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك: ما فعل أصحابك قال: كفانيهم الله ، فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به قال: وما هو ، قال: تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهما من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل: باسم الله رب الغلام ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني.
فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهما من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: باسم الله رب الغلام ثم رماه فوقع السهم صُدغه فوضع يده في صدغه في وضع السهم فمات فقال الناس: آمنا برب الغلام آ منا برب الغلام ، فأتى الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك حذرك قد آمن الناس ، فأمر بالأخدود بأقواه السكك فخُذّت وأضرم النيران وقال: من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها أو قيل له اقتحم ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها ، فقال: لها الغلام يأمه اصبري فإنك على حق "([3]).
قال النووي: ( هذا الحديث في إثبات كرامات الأولياء ، وفيه جواز الكذب في الحرب ونحوها ، وفي انقاذ النفس من الهلاك سواء نفسه أو نفس غيره ممن له حرمة ) ([4]).
قصة الغلام
فجعل عبد الله بن الثامر: إذا دخل نجران لم يلق أحدا به ضر إلا قال: يا عبد الله أتوحد الله وتدخل في ديني فأدعو الله لك فيما فيك مما أنت فيه من البلاء؟ فبقول: نعم ، فتوحيد الله ويسلم فيدعوا الله له فيشفي حتى لم يبق أحد بنجران به ضرا إلا أتاه فاتبعه على دينه ودعا له فعوفي ، حتى رفع شأنه إلى ملكهم.....
قال القرطبي: ( قال علماؤنا: أعلم الله عز وجل المؤمنين من هذه الأمة ما كان يلقاه من وحّد قبلهم من الشدائد يؤنّسهم بذلك ، وذكر لهم النبي صلى الله عليه وسلم قصة الغلام ليصبروا على ما يلاقون من الأذى والآلام والمشقات التي كانوا عليها ، ليتأسوا بمثل هذا الغلام في صبره وتصلبه في الحق وتمسكه به وبذله نفسه في حق إظهار دعوته ودخول الناس في الدين مع صغر سنه وعظم صبره.
وكذلك الراهب صبر على التمسك بالحق حتى نشر بالمنشار ، وكذلك كثير من الناس لما آمنوا بالله تعالى ورسخ الإيمان في قلوبهم صبروا على الطرح في النار ولم يرجعوا في دينهم.
قال ابن العربي: وهذا منسوخ عندنا حسب ما تقدم بيانه في سورة النحل ، قلت: ليس بمنسوخ عندنا ، وأن الصبر على ذلك لمن قويت نفسه وصلب دينه أولى ، قال الله تعالى مخبرا عن لقمان " يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور }.
وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر"([5]).
وروى ابن سنجر (محمد بن سنجر)عن أميمة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: " كنت أوضئ النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل ، قال: أوصني ، فقال: لا تشرك بالله شيئا وإن قطعت أو حرقت بالنار......"([6]).
قال علماؤنا: ( ولقد امتحنا كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالقتل والصلب والتعذيب الشديد فصبروا ولم يلتفتوا إلى شيء من ذلك ويكفيك قصة عاصم وخبيب وأصحابها وما لقوا من الحروب والمحن والقتل والأسر والحرق وغير ذلك ، وقد مضى في النحل أن هذا الإجماع ممن قوى في ذلك فتأمله هناك([7]).
وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية عينا وأمّر عليهم عاصم بن ثابت وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب فانطلقوا حتى إذا كان بين عُسْفان وتلة ذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان فتبعوهم بقريب من مائة فاقتصوا آثارهم حتى أتوا منزلا نزلوه ، فوجدوا في نوى تمر تزودوه من المدينة فقالوا: هذا تمر يثرب فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم ، فلما انتهى عاصم وأصحابه لجئوا إلى فدفد ، وجاء القوم فأحاطوا بهم فقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل منكم رجلا ، فقال عاصم: أما أنا فلا أنذل في ذمة كافر ، اللهم أخبر عنا نبيك فقاتلوهم حتى قتلوا عاصما في سبعة نفر بالنيل ، وبقي خبيب وزيد ورجل آخر فأعطوهم العهد والميثاق فلما أعطوهم العهد والميثاق نزلوا بهم فلما استمسكوا منهم حلوا أوتار قسيهم فربطوهم بها فقال الرجل الثالث الذي معهما : هذا أول الغدر فأبى أن يصحبهم فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوا وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة فاشترى خبيبا بنو حارث بن عامر بن نوفل وكان خبيب هو قتل الحارث يوم بدر فمكث عندهم أسيرا حتى إذا أجمعوا قتله استعار موسى من بعض بنات الحارث لستحد بها فأعارته قالت فغفلت عن صبي لي فدرج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه فلما رأيته فزعت فزعة عرف ذاك مني وفي يده الموسى فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لا أفعل ذاك إن شاء الله وكانت تقول: ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذ ثمرة وإنه لموثق في الحديد وما كان إلا رزق رزقه الله ، فخرجوا به من الحرم ليقتلوه فقال: دعوني أصلي ركعتين ، ثم انصرف إليهم فقال: لولا أن تروا أن ما جزع من الموت لزدت فكان أول من سنّ الركعتين عند القتل هو ثم قال: اللهم أحصهم عددا ، ثم قال:
ما إن أبالي حين أقتل مسلمـا......على أي شق كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ......يبارك على أوصال شِوا مُمــــــــزّع
ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله ، وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفون - وكان عاصم قتل عظيما من عظمائهم يوم بدر فبعث الله عليه مثل الظلة م الدّبْر فحمته من رسلهم فلم يقدروا منه على شيء"([8]).
قال ابن حجر: ( وفي الحديث أن للأسير أن يمتنع من قبول الأمان ولا يمكن من نفسه ولو قتل ، أتفه من أنه يجري عليه حكم كافر ، وهذا إذا أراد الأخذ بالشلة فإن أراد الأخذ بالرخصة له إن يستأمن ، قال الحسن البصري: لا بأس بذلك ، وقال سفيان الثوري: أكره ذلك ، وفيه الوفاء للمشركين بالعهد والتورع عن قتل أولادهم والتلطف عن أريد قتله ، وإثبات كرامة الأولياء ، والدعاء على المشركين بالتعميم ، والصلاة عند القتل ، وفيه إنشاء الشعر وإنشاءه عند القتل ودلالة على قوة يقين خبيب وشدته في دينه ، وفيه أن الله يبتلي عبده المسلم بما شاء كما سبق في علمه ليثيبه ولو شاء ربك ما فعلوه ، وفيه استجابة دعاء المسلم وإكرامه حيا وميتا وغير ذلك من الفوائد مما يظهر بالتأمل وإنما استجاب الله له في حماية لحمه من المشركين ولم يمنعهم من قتله لما أراد من إكرامه بالشهادة ومن كرامته حمايته من هتك حرمته بقطع لحمه وفيه ما كان عليه مشركوا قريش من تعظيم الحرم والأشهر الحرم.) ([9]).
.
قصة أبي حازم مع سليمان بن عبد الملك
روى الدارمي أبو محمد في مسنده رقم (673) أخبرنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن عمر بن الكميت قال : حدثنا علي بن وهب الهمداني قال: أخبرنا الضحاك بن موسى قال: مر سليمان بن عبد الملك بالمدينة وهو يريد مكةفأقام بها أياما ،فقال :هل بالمدينة أحد أدرك أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ؟قالوا له أبو حازم ،فأرسل إليه ،فلما دخل عليه قال له يا أبا حازم ،ما هذا الجفاء ؟قال أبو حازم :يا أمير المؤمنين ،وأي جفاء رأيت مني ؟ قال :أتاني وجوه أهل المدينة ولم تأتني !
قال يا أمير المؤمنين ،أعيذك بالله أن تقول ما لم يكن ،ما عرفتني قبل هذا اليوم ،ولا أنا رأيتك ! قال :فالتفت إلى محمد بن شهاب الزهري ،فقال :أصاب الشيخ وأخطأت .
قال سليمان :يا أبا حازم ،مالنا نكره الموت ؟قال :لأنكم أخربتم الآخرة ،وعمرتم الدنيا ،فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب .قال أصبت يا أبا حازم ،فكيف القدوم غدا على الله تعالى ؟قال :أما المحسن ؛فكالغائب يقدم على أهله ،وأما المسيء ؛فكالآبق يقدم على مولاه .فبكى سليمان وقال :ليت شعري !مالنا عند الله ؟قال :اعرض عملك على كتاب الله .قال :وأي مكان أجده ؟ قال [إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم ]
قال سليمان :فأين رحمة الله يا أبا حازم ؟ قال أبو حازم :رحمة الله قريب من المحسنين .قال له سليمان ،يا أبا حازم ،فأي عباد الله أكرم ؟قال :أولوا المروءة والنهى .قال له سليمان :فأي الأعمال أفضل ؟قال أبو حازم :أداء الفرائض مع اجتناب المحارم .قال سليمان :فأي الدعاء أسمع ؟قال دعاء المحسن إليه للمحسن . فقال :أي الصدقة أفضل ؟قال للسائل البائس ،وجهد المقل ،ليس فيها من ولا أذى .قال :فأي القول أعدل ؟قال :قول الحق عند من تخافه أو ترجوه .قال : فأي المؤمنين أكيس ؟قال رجل عمل بطاعة الله ،ودل الناس عليها .قال:فأي المؤمنين أحمق :قال:رجل انحط في هوى أخيه وهو ظالم ،فباع آخرته بدنيا غيره .
قال له سليمان :أصبت ،فما تقول فيما نحن فيه ؟قال :يا أمير المؤمنين أوتعفيني ؟قال له سليمان :لا .ولكن نصيحة تلقيها إلي .قال :يا أمير المؤمنين ،إن آباءك قهروا الناس بالسيف ،وأخذوا هذا الملك عنوة من غير مشورة من المسلمين ولا رضاهم ،حتى قتلوا منهم مقتلة عظيمة ،فقد ارتحلوا عنها ،فلو شعرت ما قالوه ،وما قيل لهم !فقال له رجل من جلسائه :بئس ما قلت يا أبا حازم !قال أبو حازم كذبت ،إن الله أخذ ميثاق العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه .
قال له سليمان فكيف لنا أن نصلح ؟قال :تدعون الصلف وتمسكون بالمروءة ،وتقسمون بالسوية ،قال له سليمان :كيف لنا بالمأخذ به ؟قال أبو حازم :تأخذه من حله ،وتضعه في أهله .قال له سليمان :هل لك يا أبا حازم أن تصحبنا فتصيب منا ونصيب منك ؟قال أعوذ بالله !قال له سليمان ولم ذاك ؟قال :أخشى أن أركن إليكم شيئا قليلا ،فيذيقني الله ضعف الحياة وضعف الممات .
قال له سليمان :ارفع إلينا حوائجك .قال :تنجيني من النار وتدخلني الجنة !قال له سليمان ليس ذلك إلي !قالوا أبو حازم فما لي إليك حاجة غيرها .قال فادع لي .قال أبو حازم :اللهم إن كان سليمان وليك فيسره لخير الدنيا والآخرة ،وإن كان عدوك ،فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى .قال له سليمان قط!قال أبو حازم قد أوجزت وأكثرت إن كنت من أهله ،وإن لم تكن من أهله فما ينبغي أن أرمي عن قوس ليس لها وتر .
قال له سليمان :أوصني ،قال :سأوصيك وأوجز :عظم ربك ،ونزهه أن يراك حيث نهاك ،أو يفقدك حيث أمرك .
فلما خرج من عنده بعث إليه بمائة دينار ،وكتب إليه :أن أنفقها ولك عندي مثلها كثير .قال فردها عليه وكتب إليه :يا أمير المؤمنين :أعيذك بالله أن يكون سؤالك إياي هزلا ،أو ردي عليك بذلا ،وما أرضاها لك فكيف أرضاها لنفسي ؟!
إن موسى بن عمران لما ورد ماء مدين وجد عليه رعاء يسقون ،ووجد من دونهم جاريتين تذودان ،فسألهما فقالتا [لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما لأنزلت إلي من خير فقير ]
وذلك أنه كان جائعا خائفا لا يأمن ،فسأل ربه ولم يسأل الناس ،فلم يفطن الرعاء ،وفطنت الجاريتان ،فلما رجعتا إلى أبيهما ،أخبرتاه بالقصة وبقوله ،فقال أبوهما وهو شعيب عليه السلام :هذا رجل جائع .فقال لإحداهما :اذهبي فادعيه .فلما أتته عظمته وغطت وجهها وقالت :[إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ] فشق على موسى حين ذكرت :أجر ما سقيت لنا .
ولم يجد بدا من أن يتبعها لأنه كان بين الجبال جائعا مستوحشا ،فلما تبعها هبت الريح ،فجعلت تصفق ثيابها على ظهرها ‘فتصف له عجيزتها –وكانت ذات عجز- وجعل موسى يعرض مرة ويغض أخرى ،فلما عيل صبرها ناداها :يا أمة الله كوني خلفي ،وأرني السمت بقولك .فلما دخل على شعيب إذا هو بالعشاء مهيئا ،فقال له شعيب :اجلس يا شاب فتعش ،فقال له موسى عليه السلام :أعوذ بالله !فقال له شعيب لم ؟أما أنت جائع ؟قال بلى ،ولكني أخاف أن يكون هذا عوضا لما سقيت لهما ،وأنا من أهل بيت لا نبيع شيئا من ديننا بمل ء الأرض ذهبا .فقال له شعيب :لا يا شاب ،ولكنها عادتي وعادة آبائي :نقري الضيف ،ونطعم الطعام ،فجلس موسى فأكل .فإذا كانت هذه المائة دينار عوضا لما حدثت ،فالميتة والدم ولحم الخنزير في حال الاضطرار أحل من هذه ،وإن كان لحق في بيت المال ،فلي فيه نظراء ،فإن ساويت بيننا ،وإلا ؛فليس لي فيها حاجة .
قال القرطبي رحمه الله تعالى بعد أن ذكر هذه القصة بكاملها :هكذا يكون الاقتداء بالكتاب والأنبياء ،انظروا إلى هذا الإمام الفاضل والحبر العالم ؛كيف لم يأخذ على علمه عوضا ،ولا على وصيته بذلا ،ولا على نصيحته صفدا ،بل بين الحق وصدع ،ولم يلحقه في ذلك خوف ولا فزع .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا يمنعن أحدكم هيبة أحد أن يقول –أو يقوم –بالحق حيث كان )) أخرجه أحمد رقم (11017) والترمذي رقم (2191) وقال :حديث حسن صحيح .
وفي التنزيل [يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم .
القرطبي 2/15-18


[1])) رجال الفكر والدعوة 1/25-26
[2])) ضعيف جدا انظر المجمع 9/386 ، والدر 5/492
[3])) رواه مسلم مع النووي 18/330-332
[4])) شرح النووي على مسلم 18/330
[5])) أخرجه الترمذي.
[6])) أخرجه الطبراني في الكبير 24/190 وللحديث شواهد ، المجمع 4/216
[7])) القرطبي 19/256-257
[8])) صحيح البخاري مع الفتح 7/473-474
[9])) فتح الباري 7/481

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق